Global searching is not enabled.
Skip to main content

Blog entry by المدير التقني

كورونا يغير الواقع على كل صعيد: هل نشهد حاليا ولادة عالم جديد؟

كورونا يغير الواقع على كل صعيد: هل نشهد حاليا ولادة عالم جديد؟

اللحظة التي يعبرها العالم اليوم بالغة التأثير عميقة الأثر، وسوف تدخل التاريخ نقطة تحول جذرية، تؤسس أنماطا جديدة، وتعزز أخرى موجودة بالفعل في عوالم الاجتماع والاقتصاد والسياسة.

تأثير فيروس كورونا الصحي سوف يزول مع الزمن، وسوف تتجاوز البشرية خطره كما تجاوزت أوبئة وطواعين وحروبا سابقة، لكن الأثر الذي ستتركه كل هذه الإجراءات الكونية ضد الفيروس لن يزول بنفس السرعة، وبعض تأثيره سيستمر في حياة البشرية أزمنة طويلة.

الواقع الذي تعيشه اليوم لم يسبق له مثيلٌ من حيث تواصل العالم دولا وأفرادا واعتماد الناس على بعضهم البعض، فالاقتصاد العالمي المتداخل، والتكنولوجيا العالمية التي تصل الكوكب ببعضه، صنعتا واقعا لم تشهده البشرية من قبل.

العولمة هذه فريدة في حجمها وقوة تشابكها، ولم يشهد لها العالم مثيلًا منذ أن أسس الإنسان القديم تجمعات بشرية قبيل الثورة الزراعية منذ عشرة آلاف عام، وكورونا يضرب اليوم في صميم هذه العولمة، ويعصف بـأساسها الذي حسبته البشرية صلبا عصيا على الاهتزاز.

كورونا تُلقن العالم درسًا في التواضع!

قبل سنتين، صدر كتاب التنوير الآن والذي أوصى بيل غيتس النّاس بقراءته، كان المؤلف ستيفن (Steven Pinker) متفائلا جدا إذ يقول أنّنا نعيش اليوم أفضل حالة بشرية، والسبب في ذلك أنّنا استطعنا التغلب على الكثير من الأمراض والمجاعات، ووصلنا بالإنسان إلى مستوى من الوعي والتواصل والرخاء والحالة الإنسانيّة الراقيّة لدرجة غير مسبوقة تاريخيًا، وقد يكون ذلك صحيحًا في كثيرٍ من أبعاده ولكنه ليس صحيحًا بالمُطلق!

لقد كشف فيروس كورونا عن عجزٍ عالميٍّ غير متوقع في محاربته كوباءٍ وقد ظنت البشرية أنّها قد تجاوزته، لأنّنا احتفلنا جميعا منذ عقودٍ من الزمن بأنّ الإنسان قد انتصر، واستطاع أن يهزم الأمراض والأوبئة والطواعين، ووضع لها حدًا بل وأزاحها من قاموسه، أما فكرة الوباء العالميّ الذي يجتاحُ البشريّة كان يتنبأ به بعض المتحدثين مثل بيل غيتس وغيره.

يوجد تيار تفاؤليّ خاصةً عند أولئك الذين يفاخرون حتى اليقين بعالم العلم والتكنولوجيا، لكن تبيّن لنا أنّ البيولوجيا ما زالت تعود مرة أخرى لكي تثبت عجزنا وضعفنا، وأن الإنسان كما وصفه الله سبحانه وتعالى خُلِق ضعيفًا، ويقف عاجزًا أمام فيروس لا يُمكن أن يُرى بالعين المُجردة.

نواصل حياتنا على اعتبار أنّنا كائناتٍ بشريّة لا آلهةً ولا أنصاف آلهة، ولا قادرين حتى على فهمِ كثيرٍ من الأقدار التي تجتاح أحوالنا وتُغيّر من معادلات وجودنا وبقاءنا، هذا أكبر درسٍ للتواضع للبشرية التي ظنت أنّها قد تجاوزت كثيرًا من المحن التي مر بها الأسلاف!

هذه الحالة من العَجز لا بُد أن نُركز عليها قليلًا، لا لكي نجلد ذواتنا، ولكن لأن كلّ حدثٍ كبير يحمل عبرة كبرى للإنسان، يزداد حجمها وعمقها مع زيادة أهميّة الواقعة أو الابتلاء.

يحمل واقع اليوم درسا مهما جدا وضروريّ، إن لم نمعن النظر فيه فإننا سنقع في حومة عمى حضاريّ لا ينبغي للعاقل أن يقع فيه، ونستحضر للآية الكريمة التي تُلح علينا دومًا، نقرؤها ولكن لا نعي أشكال وقوعها إلا عندما تنجلي أمامنا بشكل واضح كما هو الحال اليوم؛ (حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [يونس:24]

ظن الإنسان في السنوات الماضية أنّه قادر على الأرض، مهيمن عليها، وقد تنبأ «يوڤال هاراري» بأنّ الإنسان الجديد (الهوموديوس) هو متألهٌ، باعتبار أنه استطاع أن يهزم كل قواعد الضعف التي أحاطت بالبشرية، وأنّه قد اقترب أكثر من أي وقتٍ مضى نحو الخلود التام، لكن نكتشف بعد فترة قصيرة جدا من هذه النزعة التي اعتنقها عدد كبير من العلماءِ الغربيين أن هذا ليس إلّا «أسطورة»، فضعف الإنسان حقيقةٌ وجودية كامنةٌ فيه بشكل أصيلٍ لا طارئ.

لذلك ينبغي أن يعتبر الجميع بهذا الذي قد وقع، اعتبارًا نستفيد منه، لأنّ الله لم يخلق شرٍا مطلقا، وأنه مع كل عسرٍ يسرين، وينبغي أن نتيقن من ضعفنا ونتوكل على الله سبحانه وتعالى ونواصل حياتنا على اعتبار أنّنا كائناتٍ بشريّة لا آلهةً ولا أنصاف آلهة، ولا قادرين حتى على فهمِ كثيرٍ من الأقدار التي تجتاح أحوالنا وتُغيّر من معادلات وجودنا وبقائنا، نحن نشهد الآن أكبر درسٍ في التواضع للبشرية التي ظنت أنّها قد وصلت حد القدرة الكلية وأنها تجاوزت الضعف الإنساني الذي عانى منه الأسلاف!

الأوبئة العالميّة التي اجتاحت الإنسانية معدودة، لأنّ الوباء العام هو الذي يجتاح العالم أجمع أو معظم الكرة الأرضيّة، ويصل إلى معظم التجمعات السكانيّة ويصيبها في مختلف جوانب حياتها، لا الصّحّية فحسب بل يُؤثر على الجوانب الاجتماعيّة والاقتصاديّة والدينيّة والفكريّة أيضًا، وهذا الوباء العالميّ الذي نعيشه حاليًا ينبغي أن ُيوضع في سياق الأوبئة العالميّة الأُخرى، فالحقيقة أنّ البشريّة عانت من الأوبئة منذُ زمنٍ بعيدٍ.

الطاعون الأنطوني والبحث عن الحقيقة الجديدة!

أول وباءٍ وصلتنا أنباؤه من خلال المؤرخين القُدامى، كان الوباء الذي وقع عام 165م في روما وايطاليا ومعظم البلدان الرومانية، إذ كانت تُسيطر الدولة الرومانية على البحر الأبيض، شمال أفريقيا وجنوب أوروبا وإسبانيا وكذلك بلاد الشام، سنة 165 اجتاح الامبراطورية طاعون قاتل، أطلق عليه لاحقا الطاعون الأنطوني Antonine Plague، وقد استمر فترةً من الزمَن، ومن المعروف أنّه كان من أحد الأسبابِ التي أضعفت الدولة الرومانية الغربية وقادت الى انهيارها، حيث بدأت القبائل الجرمانية باجتياحها، فالطاعون أضعفَ الجيش الروماني فلم يستطع تأمين حدود الإمبراطورية أمام القبائل االجرمانيّة في الشمال، فبدأت تُهاجم دون أن يصدّها أحد، فسقطت الدولة بعد ذلك بشكلٍ كاملٍ في القرن السادس الميلادي.

كلّ الأوبئة والطواعين التي اجتاحت العالم كانت نهايةً لعصرٍ، وبدايةً لعصرٍ جديدٍ، نهاية لشيءٍ قديمٍ قد هَرِم، وبداية لشيءٍ جديدٍ كان لا يستطيع الولادةَ فأحتاج إلى حدث مُزلزل كبير ليُولد بعده.

لم يهدم الطاعون العصب العسكري للدولة الرومانية فحسب، بل أذن ببداية انهيار الأديان الرومانيّة، وكان من أحد الأسباب التي بعثت الديانة المسيحيّة في معظم أرجاء الدولةِ الرومانية، وصولًا إلى اعتناق الدين المسيحيّ وتثبيت أركانه من قبل الامبراطور قسطنطين في مطلع القرن الرابع ميلادي 315-333م ، وأصبح بعدها الدين المسيحي هو الدين الرسميّ للدولة الرومانيّة.

والأديان الرومانية القائمة على تعدد الآلهة لم تكن قادرةً على الإجابة عن الأسئلة الكبرى التي طرحها النّاس في أعقاب الجائحة الكبرى التي وضعتهم أمام الموت، ومن ذلك الوقت بدأ النّاس يبحثون عن حقيقةٍ جديدةٍ تجيب عن أسئلتهم، فوجدوها في دينٍ آخرٍ هو الدين المسيحيّ.

طاعون «جستنيان» لا يُنهي البَشَر فحَسب!

الطاعون الثاني الذي له أهمية تاريخية لنا نحن المسلمين، هو طاعون جستنيان، لقد كان جستنيان إمبراطورًا من أهم أباطرة الدولة الرومانيّة الشرقيّة والتي أطلق عليها (البيزنطينية)، وهو قائدٌ مهم، أرسى قواعد القوة البيزنطية وحارب الدولة الفارسية وكان له دور مهم في تشكل العالم بما في ذلك دوره في الحبشةِ واليمن، وله إنجازات كثيرة، منها قانون جستنيان الشهير، الذي أصبح ثقافةً عالمية، ومبادئه ما زالت تتداول في القوانين الأوروبية، وبعد سقوط روما في يد القبائل الجرمانية، حاول جستنيان توحيد الدولة الرومانية الشرقية والغربيّة تحت قيادته، إلا أن الأقدار كانت تخبئ له شيئا آخر.

فقد اجتاح طاعونٌ مميت الدولة البيزنطية ابتداء من عام 541م إلى 543م، بدأ بمصر وانتقل إلى القسطنطينية والأناضول وبلاد الشام وعدد من المناطق التابعة لها، وأصاب كذلك الدولة الساسانية، وسُميّ فيما بعد باسم الإمبراطور «طاعون جستنيان» Plague of Justinian.

الطاعون الذي ظهر قبل ثلاثين سنةٍ من ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم أضعف الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية ضعفًا شديدًا، لأنّنا نعرف أنّه قتل ما يُقارب نصف سكان القسطنطينية، وقُطعَت طُرق التجارة مع مصر التي ظنوا أنّها مصدر الوباء -وقد أكدّ الباحثون المعاصرون أنّ الوباء لم يبدأ في مصر إنّا انتقل إليها من وسط آسيا عبر السفن التجارية من خلال الفئران التي تنقله إلى الإنسان عن طريق «البق » وهيّ حشرةٌ صغيرة يصاب بها النّاس أحيانا عندما ينامون في فُرشهم.

وانتقل الطاعون إلى الموانئ الأوروبية المختلفة، وأصاب الإنسانيّة في مَقتَل، وكان عدد البشرية في ذلك الوقت لا يزيد عن مائتي مليون، وقُتل منهم عدد كبير، ووقع ضرر فادح في الجيش وإيرادات الدولة التي كانت في حربٍ مع قبائلٍ وسط أوروبا، فلم تستطع حماية نفسها، فاضطر جستنيان لزيادة الضرائب، ومع أن الامبراطورية عاشت بعد ذلك وحاربت الفُرس، إلّا أنّ هذا الطاعون كان أحد الأسباب الكُبرى التي أدت إلى إضعاف الدولتين البيزنطية والفارسية، وهو ما مهد لانهيار الامبراطوريتين الاثنتين معا على يد المسلمين بعد ستة عقود.

لا تنتهي الطواعين فجأة، أي أنّها تخمد لسنوات ثمّ تستعيد نفوذها وتأثيرها وقتلها للبشر.

امتدادا لطاعون جستنيان ظهر طاعون عمواس سنة 630م في بلدة عمواس في فلسطين؛ سببته نفس البكتيريا، فعاد للانتشار مرةً أخرى ليفتك بالنّاس، ويُقال أنه من أخطر الطواعين على الإطلاق، وأنه استمر يُعاود قتل النّاس في أنحاء العالم مرات عديدة وصولا إلى أكبر طاعون عرفته البشرية على الإطلاق وهو طاعون الموت الأسود بعد 800 عام.

الموت الأسود وميلاد العقلانية الأوروبية

عام 1348م، أصاب البشرية فناء عظيم، طاعون مدمر يسمى بالموت الأسود أو الطاعون الكبير(Black Death)، اجتاح العالم بأسره، وقتل في وسط آسيا والصين مقتلةً عظيمة، في الصين قُتل 40% من سكانها، ونسبة الوفاة كانت تزيد عن 90% من المصابين، من يُصاب به لا يعيش إلا يوما أو يومين، انتقل من آسيا إلى أوروبا واستغرقت رحلته خمسة عشر عامًا، فطرق التجارة كانت بطيئة.

يعرف هذا الطاعون في أدبيات المورخين المسلمين في منتصف القرن الثامن الهجري باسم الطاعون العام، ونقرأ أخبارا مفزعة في كتب المؤرخين المسلمين الذين عايشوه في الشام وفي مصر، كابن الوردي الذي كتب رسالة في وصف المرض كما عايشه، وقد مات بسببه، ومما ذكر أنّ الجنائز في القاهرة كانت تزيد عن عشرين ألف جنازة في اليوم، حتى لا يجد النّاس من يدفن، وصار الدفن مكلفًا ويتهرب الكثيرون منه بسبب العدوى.

يقدر عدد ضحايا الطاعون بمائة مليون، وهذا عدد ضخمٌ مقارنةً بعدد سكان العالم المقدر وقتها 475 مليون، أي أن حوالي الثلث قضوا في سنة 1348م، هذا الوباء في ثلاثة أشهر ما يزيد عن 20% من سكان العالم، ثمّ استمر بعد ذلك يقتل النّاس لسنواتٍ طويلة، إلى أن بلغ عدد ضحاياه مائتي مليون إنسان وفق تقدير الباحثين.

كما كان طاعون جاستنيان إيذانا بنهاية الدولة البيزنطية وولادة الدولة الإسلامية، كان الطاعون الكبير إيذانا بانتهاء العصور الوسطى في أوروبا وبداية عصر النهضّة. وهذا عائد لأسبابٍ كثيرة، فعندما وقع هذا الطاعون كان أكثر ضحاياه من الفقراء.

وفي القرن الرابع عشر كان النظام الاقتصادي يعتمد على الإقطاع، وقد وصل ذروته في أوروبا؛ النبلاء يُسيطرون على أراضي شاسعة والفقراء يعيشون فيها عبيدا يُمارسون الزراعة لمصلحة النبلاء؛ بعد الطاعون وجد النبلاء أنفسهم بدون عمال لفلاحة الأرض، فقد مات منهم خلق كثير، وأصبح عددهم قليلًا، فصار العمال يطالبون بحريات أكبر وحقوقٍ أكثر، وصولًا إلى إنهاء الرق والإقطاع في أوروبا.

حاول الإقطاعيون أن يستعيدوا سطوتهم لكن الفقراء لم يُمكنوهم من ذلك، لذا يعتبر المؤرخون أنّ الطاعون الأسود هو الذي أطاح بمنظومة الإقطاع.

وتعدى تأثيره إلى الدين، فالكنيسة التي كانت تهيمن على الحياة السياسية والروحية اهتزت سطوتها، فها هي تقف عاجزة أمام الطاعون.

كان القرن الرابع عشر من القرون المميزة عالميا، كان العالم الإسلامي يعيش عهدا ذهبيا، ويرى العالم أنّ المسلمين أكثر تقدمًا وتطورًا في العلم، الطب، الفلك والهندسة، وفي مختلف مناحي الحياة الحضارية الإنسانية، وشهد الأوروبيون ذلك في الأندلس، ورأت فيها ما لم تره في جامعاتها وكنائسها وعند مثقفيها، فالأندلس في ذلك الوقت كانت نقطة حضارية مُضيئة في عالم مُظلمٍ تعيشه أوروبا، ونعرف أنّ بعض الأطباء المسلمين كانوا يستعان بهم لمداواة نخبة أوروبا وباباواتها، فالطب في أوروبا كان شعوذة وخزعبلات.

الطواعين الكبرى تُثير أسئلة وجودية عن معنى الدين والحياة وما الذي ينبغي على الإنسان أن يفعله حتى يتجاوز هذه الحالة.

الكنيسة فسرت الطاعون بأنّه غضبٌ الله قد حلّ على الناس بسبب معاصيهم، لكنها فشلت في تقديم حلول لرفع البلاء، عندها اهتدى الناس إلى دروب أخرى لمحاولة استكشاف الحقيقة وصولًا إلى ميلاد ما نعرفه بالعقلانية الأوروبية التي تسربت بداياتها من الأندلس تحديدًا، وصولًا إلى النهضة الأوروبية الشاملة في القرنين السادس عشر والسابع عشر.

يؤرخ المؤرخون بالطاعون الكبير بداية لعصر النهضة الأوروبية، ويعتقدون أنّه كان أحد البواعث الكبرى لإنهاء الإقطاع وانطلاق مرحلة التعقل والعقلانية الأوروبية وصولا إلى مرحلة النهضّة، ثمّ انحسار التأثير الكهنوتي على الحياة العامة، لاسيما الحياة السياسية والعلمية.

لم تسجل الإنسانية منذ ظهور الطاعون الأسود ولا قبله خسائر بشرية كالتي سجلتها وقتئذ، واحتاجت البشرية إلى مائتي سنة لكي تُعوّض الذي ماتوا في هذا الوباء.

مع نشوة النصر لوعة الأنفلونزا!

الوباء الرابع هو الأنفلونزا الإسبانية، الذي سببه فيروس H1N1، من سنة 1918م إلى 1920م، أي بعد الحرب العالمية الأولى، ويسمى بالانفلونزا الإسبانية ليس لأنّه بدأ في إسبانيا، بل لأن الذين تحدثوا عنه ونشروه كانوا من الإسبان، والصحف الإسبانية كانت تملك قدرًا من الحرية، بينما كان العالم غارقا في آثار الحرب العالميّة الأولى، وكان الناس في ذلك الوقت لا يودون متابعة أخبار الموت، بعدما خرجوا من رحى الحرب العالمية الأولى، والتي كانت من أسباب انتشار الطاعون من خلال الجنود الذين عادوا إلى بلدانهم بعد قتالهم في مختلف أنحاء أوروبا، فنقلوا إضافة إلى احتفالات النصر الفيروس القاتل، فانتشر انتشارا مُريعًا.

أدت جثث قتلى الحرب في تلك المرحلة والفقر الشديد إلى مضاعفة الأنفلونزا، ويقدر عدد الذين أصيبوا به 500 مليون، وقتل ما لا يقل عن 70 إلى 100 مليون إنسان في مختلف أنحاء العالم ما نسبته 20 إلى 30%، ونسبيا تأثيره أقل من تأثير الطاعون الأسود لأن عدد سكان العالم كان في حدود مليار و900 مليون.

بقي نفس الفيروس كائنا كأنفلونزا موسمية، حتى أعاد إنتاج ذاته في أنفلونزا الخنازير سنة 2009م، هذه الأوبئة لا تموت إنّما تعاود الكرة بعد الكرة عبر أزمنة طويلة تصل إلى مئات السنين في بعض الأحيان، لكن الإنسانيّة تطوّر قدرًا أعلى من المناعة مع الزمن ضد الفيروس وتستطيع أن تتجاوزه باللقاحات أو بالمناعة الطبيعية، إلى أن يتطور الفيروس ويعاود الكرة معززا بطفرات جديدة.

ما الذي يعنيه الواقع؟ وما هي السيناريوهات المتوقعة للمستقبل؟

تنبئ مختلف الدراسات بأنه لا وجود لحلٍ سريع ينهي على عجل تقدم الفيروس، لذلك فالكوكب حاليا في حالة الإغلاق، والدولة التي لم تغلق بعد ستفعل قريبا، والتي لم تفرض حركة مشددة على الناس والأسواق ستفرض قريبا، لأنّ هذا المرض ينتقل بسرعة هائلة، لذا ينبغي على العالم أن يُغلق أبوابه، فالكرة الأرضية كلها ستدخل في وقت متزامن حالة الجمود والانعزال، حالة لم يسبق لها مثيل أبدا.

لم نعرف في مراحل تاريخية أنّ المساجد أغلقت أبوابها تماما كما يحدث في معظم دول العالم، هذا النداء الذي ينادي به المؤذن في الأوقات الخمسة «صلوا في رحالكم » أو «صلوا في بيوتكم » لم يكن معهودا، سمعنا عنه في السيرة النبوية التي أعطت إذن التيسير للنّاس، عندما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يصلوا في رحالهم بسبب المطر الشديد، أصبح هذا في غضون أسبوع واحد نمطا عاما في معظم مساجد العالم وفي نفس الوقت!

تعليق الحرية الفردية إلى إشعارٍ غير معلوم!

اليوم نرى ما لم نتصور أبدا أنه سيقع في يوم من الأيام؛ تغلق المساجد والكنائس والمعابد، يجلس الناس في بيوتهم وتغلق المحلات التجارية، والحدود والمطارات، وهذا شيء غريب على الإنسانية، لأن حرية السفر والتنقل من الحريات الكبرى التي شعر الإنسان المعاصر في العهد الليبرالي الحديث أنه قادر على أن يمارسها متى ما شاء، واعتُبرت من الحقوق الإنسانية الأساسية.

حتى إذا ظن الإنسان على أنه قد سيطر على الأمر، وأنه قادر على أن يأخذ أقرب طائرة إلى أي مكان يريده في العالم، جاء أمر الله بأن لا يتحرك من بيته، بل بأن يحد من التواصل مع الناس حتى مع من هم في بيته.

كل هذا شيء غير معهود وغير مألوف وغير متوقع ولا نعرف بالضبط متى سينتهي، وهنا مكمن الخطورة؛ من يقول بأن هذا الفيروس ربما سينتهي بعد أسبوعين أو ثلاثة فهو مخطئ، لأن أقل الدراسات تفاؤلا تشير إلى أننا نحتاج على الأقل إلى حزيران وربما نحتاج إلى أبعد من ذلك، وأكثرها يذهب إلى أننا نحتاج إلى ستة عشر شهرا أو ثمانية عشر شهرا حتى نستطيع أن نحتوي هذا الفيروس.

ما نعانيه اليوم مسألة طويلة، قد تتغير الأوضاع ويسمح للناس بالتحرك المشروط ولكن لا شك بأن القضاء على هذا الفيروس أو نزوله من المرحلة الخطيرة إلى المرحلة المعتدلة يحتاج إلى وقت طويل نسبيا قد يصل إلى عام أو عامين.

ولادة عالم جديد!

هذا يعني بالضرورة أن العالم الذي عرفناه قد انتهى، وأن عالما جديدا سوف يولد، العولمة المنفتِحة على كل شيء تعاني اليوم من خطر ماحق، فالحدود تغلق والعولمة تنتهي.

العولمة كانت اقتصادية بالدرجة الأولى، ثم صارت تقنية وثقافية، والاقتصاد اليوم هو الضحية الأكبر بعد الإنسان لفيروس الكورونا، فالإنسان يعاني ويموت، والفزع من الموت أصبح إشكالية كبرى عند الناس جميعا رغم أن نسبة الوفيات ليست كبيرة.

ولكن الخطر الماثل أمامنا اقتصادي، الإنسانية اليوم تعبر انهيارا اقتصاديا غير مسبوق، فالاقتصاد العالمي كان يعبر حالة من التوتر في السنوات القليلة الماضية، وكنا دائما نتوقع أن أزمة اقتصادية عالمية جديدة ستعصف، لكن لم يكن يتوقع أحد أن تلك الأزمة سوف تحدث بهذه السرعة ومن خلال هذا الفيروس.

اليوم نرى أن مؤشرات الأسواق العالمية وصلت إلى درجة لم يسبق لها مثيل إلا في الأزمات التاريخية الكبرى مثل الكساد الأعظم أو الكساد العظيم great depression عام 1929م وأزمة 2008م. ويتوقع الكثير من الاقتصاديين أن ما سيحدث الآن أسوأ بكثير مما حدث في الكساد العظيم، والسبب في ذلك أن الاقتصاد العالمي يعتمد بشكل أكبر من أي وقت مضى على حالة من التواصل المركب والعولمة المعتمدة على بعضها، حيث أن الكل يتأثر بالكل؛ فمنذ أن بدأت الأزمة في الصين وانتشرت تدريجيا بدأت الأسواق في الانهيار في باقي أنحاء العالم.

سوق النفط على سبيل المثال بدأ يتدهور عندما بدأ الصينيون يغلقون مصانعهم ولم يعد هنالك طلب على النفط، ثم بعد ذلك وجدنا أن النفط ينهار إلى مستويات غير مسبوقة في السنوات القليلة الماضية حيث وصل ثمنه إلى 28 وقد يصل إلى 20 دولارا في وقت ما قبل أن تعود المصانع إلى فتح أبوابها.

المتضرر الأول والمستفيد الأخير.. استعادة العافية الاقتصادية والاستراتيجية!

كانت الصين متضررة بشكل كبير ولكنها ستستعيد عافيتها قبل العالم أجمع، مما قد يؤدي إلى معدلات نمو أفضل مقارنة ببقية العالم، فقدرة الصين على التعافي أكبر من قدرة أوروبا أو قدرة الولايات المتحدة لسببين: أولهما أن الحكومة الصينية حكومة حزب واحد، حكومة مركزية، تتحكم بشكل كامل في مصير الناس وحياتهم، بينما الدول الأوروبية لا تستطيع ذلك لسبب متعلق بطبيعة المجتمعات وحياتها.

التجارة والصناعة الصينية التي يحتاجها العالم والتي تضررت في ذلك الوقت بدأت تعود للعمل، فاليوم نسمع أن تسعين بالمئة من المصانع تعاود إنتاجها. إذا تقرر هذا في الأيام القادمة فسيفعل الاقتصاد الصيني شيئين، الأول أنه سيبدأ بتزويد العالم بأكثر ما يحتاجه الآن من أدوات وتجهيزات طبية من قبيل الأقنعة وأجهزة التنفس وما إلى ذلك. والعالم سيهجم على المصانع الصينية ليأچذ منها ما يستطيع.

ستحقق الصين هدفين؛ الأول ستستعيد عافيتها الاقتصادية ولو نسبيا وتستعيد مكانتها الاستراتيجية في العالم بالعودة إلى مصاف الدول التي تنمو، لأنها إن لم تنمو ستنكمش وستُعرض نظامها السياسي إلى خطر شديد جدا، ولذلك سيعاود الصينيون تعافيهم بسرعة.

الهدف الثاني هو محاولة كسب دول العالم عبر تزويدها بالخبرات والقدرات لمكافحة الفيروس.

الصين من حيث المبدأ بدأت تتعافى، وهذا خبر مهم جدا، لكننا لا نعرف تماما متى وكيف ستعاود إنتاجها بشكل كامل وكيف ستستعيد خطوط الإنتاج إلى بقية أنحاء العالم، وفيما إذا كان التعافي نهائيا.

أوروبا.. تأزم الاقتصاد وبروز النزعة القومية

من الواضح أن أوروبا أصبحت في مأزق كبير، نحن نعرف أن الاقتصاد الأوروبي كان يعاني من أزمات اقتصادية هائلة في السنوات الاقتصادية الماضية فهو لم يتعافى بشكل كامل منذ أزمة 2008.

تذكروا أزمة اليونان وايسلانده وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا، اليوم هذه الدول تعاني مجددا، خصوصا إيطاليا، وفرنسا أيضا دخلت في حالة إغلاق وكذلك إسبانيا. نرى أن جنوب أوروبا ستعاني أكثر من شمالها، فألمانيا مثلا أكثر تحكما بالأمور من بقية دول أوروبا الجنوبية وكذلك بقية دول أوروبا الشمالية بفضل قوة اقتصادها ونظامها الاجتماعي المختلف تماما بحكم نموذج الرأسمالية الاشتراكية Social Capitalism.

إذن الفقر الذي رأينا بداياته في السنوات الماضية سوف يتفاقم، ربما سيؤدي إلى انهيارات أكبر في منطقة اليورو، وسيؤدي قطعا إلى نزعة قومية جديدة في أوروبا. وجدنا أن النزعة القومية منذ 2008 تتصاعد بشكل كبير وصولا إلى تفاقمها بعد أزمة اللاجئين في السنتين الماضيتين، وكيف أن الأحزاب القومية اليمينية المتطرفة بدأت تنمو، وسيطرت على الحكومات في بعض الدول، ولكننا نرى اليوم موجة جديدة أثناء الفيروس وبعده، فإغلاق الحدود مقترنا بالانهيارات الاقتصادية سيجعل الناس يبدأون التفكير بأنفسهم أولا بعيدا عن الآخرين.

لذلك نزعة التضامن الأوروبي سوف تتراجع، ونزعة الأنانية القومية سوف تتزايد، بمعنى القول بإيطاليا أولا واسبانيا أولا واليونان أولا … سوف تصبح هذه النزعات مقدمة على الانتماء الأوروبي.

إذن، الأثر الثاني لهذه الأزمة بعد تضرر الاقتصاد هو ظهور النزعات القومية في مختلف أنحاء العالم لاسيما في أوروبا. يهذا سيكون لها تأثير علينا كمسلمين بحكم صلة العالم الإسلامي بأوروبا وبالذات الأقليات المسلمة التي تعيش هناك.

المعاني الوجودية الجديدة!

العالم سوف يبدأ الحديث عن معان وجودية جديدة، بمعنى أن الأديان والمعتقدات والفلسفات سوف تبدأ بالحديث عن معنى الإنسانية ومعنى الحياة. لأن الناس بدأت تتساءل عن كيفية التعايش مع هذه المسألة دينيا، أو حتى إنسانيا.

تياران في العالم سيطرا على الإنسانية في كل الأزمات الكبرى؛ وهما التيار الإنساني والتيار المادي، التيار الإنساني كان يضع الإنسان -كل الإنسان- في مقام المساواة الإنسانية الدائمة مع بعضهم البعض، والتيار المادي يعتبر أن الإنسان القوي هو وحده جدير بالحياة وأن الضعيف إن مات فهذا منطق الطبيعة، منطق 'البقاء للأصلح'، وهذا مبني على المنطق الدارويني المادي البحت المجرد.

وقد رأينا ذلك في نظرة هتلر وستالين إلى البشر، كان الضعيف يقتل، كما رأيناه اليوم في كوريا الشمالية عندما قتلوا الضعفاء في المستشفيات كي لا تتكفل الدولة بعلاجهم، وكانت إيطاليا التي بدأت عهد النهضة Renaissance في أوروبا، قد نشرت وثيقة لمركز SIAARTI فيها توصيات للأطباء بأن تمنع المريض الذي يزيد عمره عن 65 سنة بالدخول للمستشفى، حتى لو كانت لديه أعراض سيئة أخرى غير فيروس الكورونا «فيترك ليموت » وذلك بسبب الأعداد المحدودة جدا من أجهزة التنفس الصناعية،ه ذه التوصيات جاءت لتساعد الطاقم الطبي على فك المشكلة الأخلاقية التي سيواجهونها.

فمثلا إذا قدم 100 مريض وليس لديهم إلا 20 جهازا للتنفس، فمن سيختارون؟ هل سيختارون الشاب الذي يؤمل أن يتعافى ويعيش بعد ذلك منتجا في المجتمع، أم الشيخ الكبير؟

هذه الإشكالية الإنسانية طرحت في كل الطواعين، فقد قرأت في كتب التاريخ عن الطاعون الذي اجتاح أوروبا، بأن السلطات كانت تأمر بإغلاق بيوت المرضى عليهم عندما يعلم أن فلانا قد مرض، يغلق البيت بالطين والحجارة على المريض لكي يموت ولا تنتقل العدوى منه، فيبقى ميتا داخل بيته، فبالتالي ثقافة أن القوي ينبغي أن يعيش وأن المريض الضعيف ينبغي أن يموت ثقافة مادية بحتة انتشرت في القرون الوسطى والآن نراها تنتشر مرة أخرى في بعض الدول الأوروبية، وهذا مناف تماما للنظرة الأخلاقية الإسلامية، التي ترى أن من واجب الإنسان أن يقوم على شأن الضعفاء وكبار السن، واعتبر أن البر بالوالدين على سبيل المثال قرين بالإيمان بالله سبحانه وتعالى، هذا بعيد جدا عن منطق المادية الذي نراه الآن في مختلف أنحاء العالم، النزعة الإنسانية والنزعة المادية ستتبارزان، والجدل بينهما سوف يحتدم.

الحاجة إلى تجديد الخطاب الديني

دور الدين بمفهومه التقليدي الموروث سوف يضعف، لأنّ الأديان عموما خاصة المسيحية واليهودية وحتى الإسلام بشكله التقليدي قد لا يجيب على بعض الأسئلة التي سيواجهها الناس في المرحلة القادمة، وهذا سيفاقم من حاجة الناس إلى خطاب ديني أقرب إلى عقولهم وإلى قدرتهم على التفاعل مع هذا الواقع وعلى هضم التغيرات الكبرى التي ستعصف بالبشرية في السنوات القليلة القادمة، ولذلك فالحاجة إلى خطاب ديني يرتقي بالإنسان إلى مستوى أعلى من المستوى الحالي حاجة ملحة كبرى. وربما سيرى فيها المسلمون فرصة لتجديد خطابهم من خطاب تقليدي تراثي يبحث في كتب التراث والتاريخ إلى خطاب عالمي إنساني قائم على القيم وروح العصر المتجدد، ويستطيع أن يقدم نموذجا حضاريا جديدا.

على حافة حضارة الجشع!

النقطة الرابعة التي ستغير من الواقع الإنساني العالمي هي البحث عن نموذج اقتصادي عالمي أكثر استقرارا وعدالة.

النموذج الاقتصادي الذي نعيشه حاليا وصل بنا من الجشع إلى درجة لم يسبق لها مثيل ووصل بنا إلى درجة من الأزمات لا سابق لها، من 1929م إلى اليوم نعيش حالات متزامنة من الأزمات، لكن الجشع يزداد والطمع يزداد و1 بالمئة يسيطرون على ما يعادل أملاك 3.8 بليون شخص في العالم.

وهذه في الحقيقة حالة غير قابلة للاستمرار، كيف يمكن لنا أن نخرج بأفكار جديدة لاقتصاد عالمي جديد؟ هذا جدل إنساني عالمي سوف يحتدم في قابل الأيام لمحاولة الإجابة على هذا السؤال.

في الأيام الماضية كتبت مقالات تطالب بتطبيق بفكرة الدخل الأساسي الأدنى minimum basic income للجميع أي كل إنسان يحصل على الحد الأدنى اللازم لحياة كريمة، وهي فكرة نشأت منذ عقود لكنها لم توفق في أن تنتشر عالميا، لكن الناس بدأوا يتحدثون عنها الآن، أيضا بدأ الحديث عن أفكار أخرى لتخفيف الفجوة بين الأغنياء والفقراء وهذا قد يأتي في المستقبل بأفكار مختلفة عن أفكار السوق الحرة وجشع وول ستريت والاقتصاد العولمي. الاقتصاد الذي نعيشه اليوم اقتصاد متوحش وصل نهاياته المنطقية الكارثية.

تأمل معي في أن 20 مليون طالب من طلاب المدارس في أمريكا، الدولة الأغنى عالميا، لا يستطيعون ألا يذهبوا إلى المدارس لأنهم يعيشون على الوجبات التي تعطى لهم في المدارس، ذهابهم للمدرسة ضرورة من أجل الطعام. هذا في أكبر دولة متقدمة في العالم تنفق تريليون دولار سنويا على السلاح.

البشرية اليوم تعيش حالة من الجنون أنفقت أموالا لا حصر لها لتجهيز الصواريخ النووية، حتى حرب الفضاء وأشياء غير متخيلة، غير متوقعة وغير ممكنة، أنفقنا أموالا على أدوات القتل بجنون عبثي، ونسينا أن ننفق بعض هذه الأموال على ما يمكن أن يحصن البشرية من أمراض وطواعين كنا نعتقد أن أسلافنا فقط هم من يصابون بها! هذا من فشل الإنسان المادي المعاصر، لقد ظهر بالفعل الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس!

تعدي سنن الله في الخلق والوجود

هناك سنن خلقها الله سبحانه وتعالى لحفظ الميزان الطبيعي، وهذه السنن إذا لم يراعيها الإنسان وأخلّ بها فإن آثارها تكون مدمرة.

يقول الله سبحانه وتعالى «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ» [ سورة النحل: 112] فلباس الخوف والجوع يقع عندما تختل علاقة الإنسان بالإنسان وعلاقته بالطبيعة.

العصر الذي نعيشه اختلت فيه علاقة الإنسان بالإنسان بسبب التوحش المادي والجشع الهائل الذي اجتاح البشرية، فتجد رجلا يمتلك مئة مليار فما فوق من الدولارات وتجد أمما تعتاش على النفايات. هذه حالة غير معقولة وغير قابلة ولا قادرة على البقاء!

البشرية عتت عتوا كبيرا في مجال الطبيعة. قبل شهور قليلة كنت أقرأ مقالا عن الحرائق في أستراليا وقبلها الحرائق التي أطاحت بجزء كبير من الأمازون، يقول فيها الكاتب أن رئة الكرة الأرضية تفسد، فهذه الغابات تنتج الأكسجين اللازم للكائنات الحية بما فيها الإنسان، واحتراقها كان بسبب التغير المناخي climate change وهو مظهر آخر للجشع الإنساني واللهاث المحموم خلف سراب النمو الاقتصادي المتواصل الذي لا يزيد البشرية إلا معيشة ضنكا وسوء عاقبة، ولا يمنحها سعادة ولا هناء ولا رخاء.

عندما قرأت أن فيروس كورونا يصيب الرئة البشرية قلت سبحان الله، دمرنا رئة الأرض بطمعنا وجشعنا ورئتنا الآن تتدمر عقوبة على ما فعلنا. أعتقد أن هناك اتصالا وثيقا بين الإنسان والوجود، وما يقع على عالم الطبيعة من ضرر يعود على الإنسان، لأن الإنسان في النهاية مخلوق طبيعي، وهو كائن حي يعيش في واقع طبيعي، وبالتالي فالأكسجين الذي يفسد والمناخ الذي يتغير والكوكب الذي يتضرر يعود علينا مرة ثانية على شكل أمراض وأوبئة ومجاعات وفقر وفيضانات وأعاصير وحرائق.

وبالتالي الفساد الذي يتكلم عنه الله سبحانه وتعالى في البر والبحر يعود على الإنسان أيضا بالضرر والعقوبة. لا كعقوبة إلهية نازلة من السماء نزولا آنيا وإنما كخلل كبير في سنن الله تعالى يعود ضررها وشررها على البشرية جمعاء. ولذلك فالاستقامة على المناهج والسنن الإلهية هي ضرورة من ضرورات الحياة الكريمة، والفشل في ذلك عواقبه وخيمة على البشرية جمعاء لا تصيب واحدا أو اثنين ولكن تصيب الكرة الأرضية كلها.

الأرض اليوم مصابة سقيمة، والإنسان أصابها بهذا السقم، ومرضها يعدي الإنسان والحيوان والكائنات المختلفة. ينبغي لنا أن نعترف ككائنات بشرية في هذا القرن أننا الأسوأ في تاريخ الإنسانية من حيث اعتدائنا على سنن الله تعالى في التوازن الطبيعي، وتغييرنا لخلق الله، وإضرارنا بمصالح الخلق عامة. لقد أودينا بعشرات الآلاف من أنواع الكائنات الحيوانية والنباتية التي انقرضت بسبب طمع الناس غير المحدود. وهذا يعود علينا وبالا، لأن ما يقع في الطبيعة من خلل يقع في الإنسانية.

تغيرات جيوسياسية

العواقب الاستراتيجية لوباء كورونا معقدة جدا، لا نستطيع الحكم الآن على نهايات قطعية، أو أن نتنبأ بواقع العالم بعد فيروس الكورونا بشكل حتمي، لكن نستطيع أن نتلمس بعض المؤشرات.

إذا كانت الصين تتعافى -رغم أننا لا نستطيع الجزم بهذا الآن- ولكن إذا افترضنا أن الصين بدأت تتعافى بينما تدخل أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية والدول الأخرى في ذروة المرض، فمعناه أن وضع الصين اقتصاديا واستراتيجيا سيكون أفضل من بقية دول العالم.

إذا استمرت حالة الانهيار الاقتصادي الحالي وصولا إلى ركود عالمي كبير، فإن الكثير من دول العالم ستتضرر ضررا غير قابل للإصلاح، وسيصاب النظام الاقتصادي في مقتل. وستعاني الدول الصناعية التي يعتمد اقتصادها على التصدير، ومن بينها الدول المنتجة للنفط.

من ناحية أخرى واقع الولايات المتحدة الأمريكية في ظل رئيس مهووس بذاته ليس مبشرا بالخير، وصورة أمريكا ستهتز، داخليا ستعاني من اضطراب النظام الصحي الأمريكي فهو ليس مهيئا لاحتواء تداعيات كورونا، فالنظام الصحي الأمريكي قد ينهار بسبب نظام التأمين الصحي السيء، وهناك نسبة هائلة من السكان ليس لديهم القدرة على دفع تكاليف العلاج، مما قد يؤدي إلى تفشي المرض سريعا وإلى حالة من الذروة لا تستطيع المستشفيات احتوائها، وهذا سيعزز من الركود الاقتصادي.

الأموال التي تضخها أمريكا في الأسواق بمئات المليارات لمقاومة الانهيار الاقتصادي الحالي مذهلة، ومع هذا تواصل الأسواق بدون رحمة هبوطا مدويا كل يوم حتى بعد انخفاض نسبة الفوائد من قبل البنك الفدرالي في أمريكا إلى الصفر.

مكانة أمريكا العالمية تتراجع منذ سنوات، وكورونا سيسرع في تراجعها وانحسار أهميتها القيادية العالمية لحساب أقطاب دولية أخرى قد تقف الصين على رأسها.

يبدو أن العالم استفاق اليوم على كابوس اقتصادي مذهل والأدوات الاقتصادية العالمية فشلت في التعاطي معه لأن حجم الأزمة أكبر بكثير مما وقع في الفترة الماضية.

قال ترمب في خطابه يوم الإثنين أن الأسواق ستتعافى سريعا وتعود إلى طبيعتها، لكن هناك ضرر حقيقي يقع على الناس خصوصا الفقراء الذين يضطرون إلى ترك وظائفهم ولا يحصلون إلا على جزء من رواتبهم أو لا يحصلون عليها، وهذا ليس إلا البداية.

سيستفيق الناس بعد كورونا وقد خسروا أموالا كبيرة جدا، المطاعم والمقاهي وقطاع السياحة وقطاع الطيران والقطاعات الخدمية الكبرى والموظفين المؤقتين والعمال المستقلين ومن ليس لديه قدرة مالية على الاستمرار، حدوث حالة من الركود الاقتصادي العالمي وعدم قدرة الناس على الشراء سيؤدي إلى تفاعلات اجتماعية وسياسية خطيرة في أماكن كثيرة ، صحيح أن الولايات المتحدة الأمريكية ستعاني، ولا ندري بالضبط هل ستتشافى أم لا، لكن الذي نتوقعه أن المعاناة الاقتصادية الأكبر ستكون أوروبية.

لم نتحدث عن الوضع الاقتصادي في الشرق الأوسط وإفريقيا لأنه سيء أصلا، ولكن الضرر الأكبر نسبيا سيقع على الدول المتطورة لأن اقتصادياتها هي الأكبر واعتمادها على الأسواق والبورصات أكبر بكثير من اعتماد الدول الأخرى.

انتهاء عالم كنّا نعرفه!

ما يحدث اليوم هو موت للقديم وإيذان بولادة الجديد، فإذا عملنا بجد واجتهاد فإن الجديد سيكون أفضل، أما إن استسلمنا لغلبة الهوى وأوهام الجشع فإننا سندخل عصور ظلام جديدة.

الأزمات تسرِّع حركة التاريخ وتكثف تحولاته، ونحن نعبر أزمة من هذه الأزمات النادرة في التاريخ، وعلى العموم فالبشرية اليوم أمام خيارين: إما أن يتضامن الناس مع بعضهم ويصلوا إلى حالة من الارتقاء الإنساني العالمي لاسيما أن هذه الأزمة لا تحل إلا بتضامن عالمي، أو أن ينكفيء الناس كل على مصلحته الضيقة ، فتتعاظم الأنانية ويزداد الجشع.

وللأسف لا أتوقع أن العالم سيثوب إلى رشده عما قريب، فيؤسس منظومة عالمية عادلة تستعيد عافية البشرية، وتؤسس نظما اقتصادية واجتماعية رشيدة. الذي أتنبأ به أن النزعة المادية القومية سوف تغلب، وأن كل دولة ستحاول أن تسيطر على مواردها وموارد غيرها، في سباق محموم جديد، وربما وصولا إلى صراعات دموية، وهذا لن يكون خيرا على البشرية في مستقبل الأيام، لكن سرعان ما سيكتشف الناس أن لا مناص من الارتقاء إلى التضامن الإنساني العالمي، والعودة الى الرشد الكفيل بحياة طيبة للجميع، وأرجو أن لا يطول ذلك.

  • Share

Reviews