Genel arama etkin değil.
Ana içeriğe git

المدير التقني tarafından blog girdileri

الأسس الفكرية والثقافية للنهوض

النهوض مشروع حضاري، أي أنه جهد يسعى إلى تطوير المجتمع ببناء الحياة الاجتماعية والثقافية على القيم الرسالية التي نقلتها الرسالات السماوية للناس، وهي عين القيم الإنسانية أو القيم الفطرية التي فطر الله الناس عليها. المشروع الذي يمتد عبر الزمن يهدف إلى تحويل القيم الرسالية إلى مؤسسات مجتمعية وفق رؤية فكرية، ولذلك فهو يعتمد على جهود النخب الاجتماعية المثقفة التي حملت القيم الرسالية وجعلتها نبراسا لها في جهدها الفكري والمجتمعي.

يمكننا تلخيص العناصر الأساسية لقيام مشروع حضاري يمكن أن يولد حركة نهوض اجتماعي وسياسي بالنقاط الخمس الآتية:

1- رؤية رسالية تحمل قيما إنسانية.

2- جهدا فكريا يعتمد دراسة نقدية للتراث والحداثة.

3- عملا مؤسسيا يحول القيم والأفكار إلى ممارسات عملية.

4- حركة مجتمعية يقودها نخب مثقفة.

5- عمل مديد يتطلب تركما في المعرفة وفي الخبرة، وهو يحتاج لذلك إلى نفس طويل وصبر شديد.

وبالنظر إلى النقاط الخمس السابقة يمكننا فهم أسباب عجز الحركات السياسية في العالم العربي عن إحداث نهضة حقيقية. فقد اختارت هذه الحركات العمل في دوائر الصراع السياسي على حساب تطوير حركة مجتمعية تحمل مشروعا حضاريا واضح المعالم، ولم تهتم باعداد النخب المثقفة القادرة على إدراك خصوصية اللحظة التاريخية التي تعيشها.

تمثل النقاط الآتية الخطوط العريضة للرؤية الإصلاحية التوحيدية المذكورة:

1- احترام التعددية

2- الخطاب العقلي في إطار الحياة العامة

3- التأسيس على عقد اجتماعي ورؤية كلية توحيدية

4- الهوية القيمية والتوجه الإنساني

5- التكامل المعرفي أو العقل التكاملي: البيان والبرهان والعرفان

6- البناء الأخلاقي الذي يشخص القيم الرسالية

7- الأساس القانوني للوحدة السياسية

أولاً: احترام التعددية الدينية والقومية والطائفية

التعدد مبدأ يرتكز إلى نصوص التنزيل ويستند أيضا إلى التجربة التاريخية للمجتمعات الإنسانية. فالتعدد له وظيفة اجتماعية في خلق توازنات بين القوى الاجتماعية للحيلولة دون هيمنة واحد منها هيمنة كاملة، مما يساعد على منع استبداد قوة واحدة بالقرار، والاستبداد بالرأي، فيترك مساحة ضرورية لاختلاف الآراء وتعدد الخيارات. والتعدد أساسي لقيام حوار بين المدارس الفكرية المختلفة، مما يساهم في النقد وتصحيح الأخطاء وتطوير الحياة الفكرية.

الاختلاف مقصد إلهي. فالقرآن يجعل الاختلاف مبدأ تاريخياً، وغرضاً أساسياً فيعلن: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم} (هود 119). ولم تفلح جهود الساعين لفرض رؤية دينية واحدة، كما حاول أحمد بن أبي دؤاد أثناء حكم المأمون إدخال امتحان خلق القرآن للتخلص من خصومه العقديين وإضعافهم، فزادتهم المحنة قوة، ووسعت من تأثيرهم الاجتماعي.

لكن قيام تعددية واستمرارها يتطلب وجود إطار معياري مشترك، تنضبط الاختلافات داخله، ويحول دون تحول الخلاف إلى حالات تصادم ومدخل لاستباحة الآخر والعدوان عليه. هذا الإطار يتكون من قيم تحترم حرية الآخر وحقه في الاختلاف واتباع قناعاته دون وصاية.

ثانياً: اعتماد الخطاب في إطار الحياة العامة

الخطاب الديني الذي يرتكز على ظاهر النصوص خطاب خاص يمكن اعتماده في الدوائر التي تمثله وتؤمن به ولكن لا يمكن اعتماده في الخطاب العام ضمن مجتمع تعددي يضم أفراداً من أديان وطوائف ومذاهب مختلفة. هذا المبدأ المهم كان حاضراً في مناظرات وكتابات المفكرين في لحظات القوة والتمكين. الخطاب المناسب في دائرة الحياة العامة هو الخطاب العقلي الذي يعتمد الحجة والإقناع.

لنأخذ على سبيل المثال مسألة حقوق المرأة في المجتمع المعاصر، التي يرى البعض إمكانية بنائها على روايات تعكس ظروف المجتمع القبلي الذي واكب بزوغ الرسالة الإسلامية. سعت التقليدية الإسلامية إلى إحياء نصوص تاريخية وقراءتها قراءة ظاهرية دون فقه أو فهم لسياقها وظروفها، وإسقاطها على حرية المرأة في المجتمع العربي المعاصر. فالسلفية الوهابية على سبيل المثال تقيد حركة المرأة، وقدرتها على السفر، استناداً إلى رواية عن رسول الله عليه الصلاة والسلام. هذا الموقف لا يصح تأسيسه من داخل الإطار الذي نعرضه، ونعتقد أنه يتوافق مع مرجعية الرسالة، عبر مطالبة فردية أو جمعية، وجعله مبدأ ملزماً للمجتمع بالاستشهاد بالحديث المرفوع. فليس مقبولاً أن يطالب شخص بإلزام مجتمع تعددي بتحريم سفر المرأة بدون محرم بالاستشهاد بقول رسول الله: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم». فهذا النص لا يصح اعتماده لإلزام المجتمع لأسباب عدة:

1- لا يتعلق النص بمسألة تعبدية (عبادة) توجب العمل بها دون البحث عن المعنى المعقول المراد بالنص، بل هو نص يرتبط بدائرة مفهوم النص ومقاصده ودلالاته. وسبق أن ناقشنا في الفصل السابق حدود استخدام الحديث، وضرورة اعتماده لبيان النص القرآني لا لإنشاء معنى جديد. والنص القرآني المتعلق بالعلاقة بين الرجل والمرأة في دائرة الحياة العامة يؤكد علاقة تكافؤ: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}...

2- يختلف الفقهاء المجتهدون في دلالة النص وشروط تطبيقه، فنهي الرسول المرأة عن السفر بدون محرم يتعلق بسلامة المرأة، ومنع وقوع العدوان عليها أثناء السفر إلى أماكن غير آمنة، أو عبر طرق يتعرض فيها المسافر إلى السلب من قطاع طرق، كما كان الحال في أسفار النساء في البادية. فإذا أمنت المرأة زال النهي.

3- دلالة النص في حال غياب الشروط العملية الملازمة لغاية الحظر - في هذه الحالة غياب الأمن - دلالة أخلاقية دينية، تتعلق بخيار الفرد وقناعاته بدلالة النص، لا دلالة قانونية ملزمة يمتلك السلطان حق إلزام أفراد المجتمع بها.

4- التوجيه في حال مظنة الأمان يتعلق بقناعات المرأة المعنية، أو على أبعد تقدير ولي الأمر المسؤول عنها في حال عدم امتلاكها صفة الاستقلال القانوني، كأن تكون قاصراً أو تحت وصاية ولي ينوب عنها بسبب قصور عقلي. ويصبح تدخل المجتمع والسلطة السياسية الشرعية في الأمر مسوغاً عند مظنة الخطر على سلامة أفراد المجتمع. ولكن التدخل يتوقف على قدرة المجتمع على ممارسة حق الشورى، فإذا غابت الأطر الشورية فلا يمكن فرض مسألة تعود للفرد من خلال سلطة غير شرعية، لم يخولها بالاتخاذ القرار نيابة عنه، وليس قادراً على مساءلتها عند تجاوزها حدود التخويل.

5- موضوع المرأة وموقعها الاجتماعي، وحقوقها العامة لا يمكن تقليصها إلى نص منفرد دون التعاطي مع الموضوع من خلال دائرة الحقوق والواجبات العامة، والنظرة الشاملة إلى دور المرأة ومسؤوليتها العامة.

ثالثاً: تأسيس المنظومة السياسية على عقد اجتماعي ورؤية توحيدية

ثمة حاجة إلى توافق اجتماعي، أو عقد اجتماعي، لتحديد دائرة الحرية والإلزام، ووضع إطار قيمي عام يحدد نقاط الإجماع التي تشكل الأساس الذي يقوم عليه العقد الاجتماعي. هذا الجهد الهادف إلى تحقيق المبادئ المجتمعية المشتركة هو دعوة للتأسيس على رؤية توحيدية ضرورية لتحقيق السلم الأهلي في مجتمع تعددي، تختلف فيه الرؤى وربما الأهداف التي تجمع المكونات الاجتماعية. لاحظنا عند استعراضنا للفرق الكلامية وجود اختلافات عميقة على مستوى الرؤية العقدية، وأن هذه الاختلافات شكلت بؤرة لقيام صراعات دموية، وظفها أصحاب الطموح السياسي لاستخدام فرقة ضد أخرى للتحكم بثروات المجتمع ومقدراته، وذلك برفع البعض دون استحقاق، وبناء على ولاءات عقدية، وشيطنة وتهميش أفراد وجماعات أخرى بسبب موقفها الناقد لسوء استخدام السلطة.

المجتمعات التي تبحث عن التناغم والانسجام العقدي (الهوية الحصرية) مجتمعات محكومة بالاضمحلال والضعف بسبب ضياع الكفاءات العلمية والفكرية والإنتاجية، وتقدم الأفراد الممالئين والوصوليين إلى المقدمة. وهي مجتمعات أمنية تنفق المال العام على قمع المعارض وحماية الممالئ، وفي ذلك إضاعة للثروة العامة. وهي مجتمعات تحقق انسجاماً شكلياً يخفي داخله عداوات باطنية مموهة تنتظر الفرصة لزعزعة حالة الانسجام المصطنعة. وهي فوق هذا وذاك مجتمعات عرضة للاختراق من الخصوم والأعداء، بلعب الخصم على الخلافات الداخلية.

لا يمكن التأسيس لمجتمع حر وصالح وفعال بالسعي إلى توافق عقدي مزعوم. التوافق الممكن والمطلوب هو توافق قيمي، اتفاق على جملة من القيم الإنسانية الفطرية التي يشترك فيه الجميع، ولا تحتاج إلى جهد كبير لتحقيق التوافق بين الناس. التوافق القيمي المطلوب يصب في مبادئ المصلحة العامة، والعدالة، والمساءلة، والحريات الأساسية، مثل حرية التعبير والتنقل والمشاركة الثقافية والتجارية والسياسية، والسلوك العام الخاضع لقوانين تنبع من القيم الفطرية المذكورة آنفاً. المطلوب هو التوافق التعاقدي لا العقدي، والإجماع القيمي لا النظري.

(إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوۤاْ أُوْلَـٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ وَإِنِ ٱسْتَنصَرُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيْكُمُ ٱلنَّصْرُ إِلاَّ عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) سورة الانفال الاية 72

التوافق القيمي يفترض اهتمام المجتمع ومنظومته الثقافية والتعليمية بجملة من الأخلاق العامة، تسمح بقيام علاقات ثقة واحترام متبادل حتى بين المختلفين عقدياً، لأن الاختلاف العقدي حالة إنسانية تتعلق بالشروط الاجتماعية التي ترافق حياة الأفراد، وتضعهم في مواقع متباينة من السُلّم الاجتماعي، وتجعل تدافعهم ضمن إطار الرؤية التوحيدية المشتركة تدافعاً مشروعاً، وبالتالي فإن الاختلافات الفكرية تثري الحياة العامة وتساعد المجتمع على استيعاب التغيرات، وإدراك الحاجات المتباينة، وتحول بين تحول الخلاف إلى صراع مفتوح.

لعل أهم المبادئ الأخلاقية التي تؤدي ممارستها في المجتمع إلى إيجاد قاعدة صلبة من الثقة والتعاون، مبدأ الشورى، الذي جعله القرآن الكريم واجباً عاماً، وخلقاً للمؤمنين، يتساوى مع أهمية واجبات الصلاة والزكاة: {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} (الشورى 38). غياب هذا المبدأ عن السلوك العام، وعن التعامل في الأسرة والمكتب والمدرسة، هو السبب في قيام الاستبداد بين الخلطاء، وقيامه بالتالي في الحياة العامة. ومبدأ الشورى يقوم - على مستوى الفعل السياسي - على مفهوم المسؤولية العامة المشتركة، والحاجة لتبادل الرأي وتقليب الأمور ثم اتخاذ القرار الذي يعكس الحكمة العامة والرأي المستنير المشترك. وقد اتفق الناس في معظم المجتمعات الإنسانية التي تؤمن بالمساواة والحرية لجميع الأفراد على اعتماد قرار الأغلبية في التصويت على المسائل العامة. لكن مبدأ الشورى بشكله الأساسي يعكس رغبة من يملك القرار باحترام الرغبات المشروعة والآراء المناسبة لمن هو شريك في تحمل نتائج القرار.

التأسيس على رؤية مشتركة، وربط هذه الرؤية بالقيم الحاكمة والممارسة العملية يتطلب تحديد خطوط الحرية والإلزام. الخطوط المشتركة في مجتمع تعددي تتطلب حصر الإلزام بالمشترك الإنساني والرسالي، واعتماد ما يمكن أن نسميه (الشرعة الإنسانية المشتركة)، لوضع حدود الملزم والطوعي بحيث ينضبط وفق قاعدة إلزامية الشرعة الإنسانية (المشترك الإنساني والرسالي)، وطوعية الخيارات الدينية والأخلاق الشخصية. الشرعة الإنسانية تقوم على أساس حقوق محورية للإنسان، أكد عليها الرسول عليه الصلاة والسلام في خطبته الشهيرة في حجة الوداع التي قال فيها: «يا أيها الناس! أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام. قال فأي بلد هذا؟ قالوا بلد حرام. قال فأي شهر هذا؟ قالوا شهر حرام. قال فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا».

القيم الثلاث التي دعا الرسول الكريم إلى احترامها والحفاظ عليها، تشكل المقاصد الثلاثة الأول من المقاصد الخمسة (حفظ النفس والمال والعرض والدين والعقل) التي اكتشفها الفقهاء حوالي القرن الرابع الهجري، مؤكدين أنها الغايات الكلية التي تضبط أحكام الشريعة. حفظ النفس أو حق الحياة، وحفظ المال أو حق التملك، بيّنة المعنى لا تحتاج إلى مزيد إيضاح. المعنى الإشكالي يتعلق بالقيمة الثالثة المتعلقة بمفهوم العرض. هذا المعنى يستخدم في الكتابات الفقهية التاريخية بشكل متبادل مع مفهوم النسل، ويرتبط في الاستخدام الشعبي الشائع بالشرف، سواء من حيث احترام النساء المرتبطات بأسرة الرجل أو بقضايا تتعلق بتوجيه الإهانة للفرد ومن لاذ به من أقاربه وأنسابه.

لكن العِرض له معنى أوسع من ذاك الذي شاع في القرون المتأخرة، وضمن بعض الدوائر الدينية المحافظة، والتي ربطت العرض بالأعراف الاجتماعية السائدة، خاصة فيما يتعلق بصيانة المرأة وعدم التعرض لها بأذى في الساحة العامة. ففي لسان العرب تحت مادة (ع. ر. ض) نجد المعاني التالية للعِرض. العِرْضُ: البَدنُ. والعِرْضُ النَّفْس. والعِرْضُ ما يُمْدَحُ ويُذَمُّ من الإنسانِ سواء كان في نفسه، أَو سَلَفِه، أو من يلزَمُه أَمرُه. والعِرْضُ الحَسَبُ.

رابعاً: الهوية القيمية والتوجه الإنساني

العقد الاجتماعي الذي أشرنا إليه، والذي يسمح بالتبادل الفكري الحر في مجتمع متعدد، يعترف بحق الأفراد في تحديد معنى حياتهم وتحمل مسؤولياتهم الوجودية، لا يمكن أن يقوم ويستمر في مجتمع حر مفتوح دون وجود نواة يتوافق تصورها لمسوؤلية الإنسان والحريات العامة مع الخطوط العريضة السابقة، واتصاف هذه النواة بالتضامن الداخلي فيما بينها دفاعاً عن القيم المشتركة والحقوق الإنسانية في التفكير والتعبير الحر، وفي تأسيس التجمعات والمؤسسات المدنية والنوادي الثقافية، والاختلاف الديني والعقدي دون اعتداء وعدوان من بعض مكونات المجتمع. المشروع الفكري يتطلب تطوير تقاليد اجتماعية تقوم على مبادئ أخلاقية، وتشكيل حركة اجتماعية تؤمن بالمشروع، وتعتنق التقاليد القيمية. هذه الحركة هي مزيج من النواة الفكرية المثقفة والتيار الاجتماعي، الذي يملك الوعي المطلوب لتأسيس الوحدة السياسية على قاعدة أخلاقية إنسانية في توجهها، دينية في التزامها بمسوؤليتها الوجودية أمام الباري عز وجل.

وجود نواة متجانسة، قادرة على تشكيل النواة الصلبة للمشروع الفكري الحضاري ضرورة حيوية واجتماعية. ولعل القارئ أدرك من خلال استعراضنا لحركة الفكر الإسلامي عبر مراحل تشكله وتطوره، أن هذا التطور ارتبط دائماً بحركة اجتماعية. فقدرة الحركة الهاشمية التي قادها محمد بن الحنفية في المدينة، ثم ابنه أبو هاشم من بعده؛ تكونت من تلاحم المشروع المعرفي الكلامي الذي ارتبط بالمؤسسة التي أنشأها ابن الحنفية في المدينة تحت اسم المكتب التعليمي، والتي خرّجت قادة الحركة الشعبية المناوئة للأمويين مثل غيلان الدمشقي والمختار الثقفي وواصل بن عطاء. ثم تحولت بعد ذلك إلى علي بن عبد الله بن عباس، الذي عكف مع ابنه محمد على نشر الفكرة وإيجاد القاعدة الشعبية لدعمها.

التلاحم المطلوب إذن تلاحم مباشر وغير مباشر. فهو مباشر على مستوى العلاقة بين النخبة المثقفة من جهة، والأطر الاجتماعية التنظيمية، وشبكات العلاقات وممثلي القوى الاجتماعية المرتبطة بالمشروع الفكري الإصلاحي من جهة أخرى. وبينما يتجلى التلاحم غير المباشر في جهود المفكرين والعلماء والباحثين، ممن تتضافرت جهودهم في تحقيق القيم المعيارية والجمالية، وفي تكريس ممارسات الإبداع العلمي والصناعي والفني، وصولاً إلى المجتمع الحضاري المنشود.

خامساً: التكامل المعرفي

يمكننا التمييز بين دوائر معرفية ثلاث، مستقلة في الفكر الإسلامي، أشار إليها عدد من المفكرين القدماء مثل القشيري، وتناولها ابن خلدون بشيء من التفصيل، واعتمدها الجابري أساساً لنقده للعقل العربي، وهي دوائر البيان والبرهان والعرفان. هذه الدوائر مختلفة بمنهجيتها ومقاربتها ومصادرها المعرفية، ولكنها متداخلة اجتماعياً وثقافياً. فالبيان دائرة ضرورية لفهم النص، أي نص.

وبالمثل تشكل دائرة العرفان اهتماماً إنسانياً، وهي دائرة أساسية لمقاربة المعنى الكلي للوجود بالإصغاء إلى الصوت الداخلي العميق المتصل بمصدر الحياة اتصالاً روحياً. يجب أن نتذكر هنا أن العرفان بوصفه معرفة مباشرة ناجمة عن تراكم الخبرة العقلية والوجوية في الذات الإنسية غير مستقل عن العقل، بل يكون النواة التركيبية الكلية للوجود الإنساني العاقل. هذا يجعل البيان والبرهان والعرفان جوانب مختلفة من ظاهرة العقل نفسها، المرتبطة في طبيعة الذات الواعية التي تعكس الروح الإنسية، حيث يتحد العقل والعاطفة والإرادة. فالعقل يتضمن مقدمات معرفية مباشرة، هي منطلق العملية التفكيرية والأخلاق العملية، ويتضمن تحليلاً بيانياً للنصوص اللغوية التي هي أصل التراكم المعرفي على المستوى الاجتماعي، ويتضمن معرفة برهانية تستقي موادها المعرفية من البيان والعرفان. وبالتالي فإن دعوة العقلانيين الطبيعيين، أو العقلانيين الذي يصرون على تقليص العقل إلى دائرة المعرفة الحسية، إلى استبعاد مصادر المادة المعرفية التي يتناولها العقل البرهاني، وتحويله إلى أداة لعزل الإنسان عن سياقه الوجودي الكلي.

لذلك فإن الجهد الفكري المطلوب لمنع وقوع العقل في الوهم والتناقض الذاتي والاجتماعي يجب أن يتركز على فهم حدود المعرفة المتولدة داخل كل دائرة من دوائر البيان والبرهان والعرفان، ووضع القواعد الحاكمة لها. الاعتراض على الدائرتين العرفانية والبيانية لا يقوم على علاقتهما العضوية أو الداخلية في الوعي الإنسي، بل على طريقة توظيفهما تاريخياً من قبل المتكلمين والمتصوفة.

سادساً: البناء الأخلاقي

ثمة لبس اليوم بين القيم والأخلاق، أو بين القيم الكلية والأخلاق المرتبطة بسياق اجتماعي محدد. فالقيم الكلية، مثل الأمانة والصدق والعدل والإحسان ارتبطت في الفكر الإسلامي بمباحث أصول الدين، وهي مباحث درست ضمن علم الكلام على مستوى العقل النظري، بوصفها صفات الباري. ثم بحثها الغزالي بوصفها مُثلاً عليا، ودعا إلى تمثلها والتخلق بها. ثم عاد وناقش الأخلاق وقام بتحليلها على المستوى النفسي. فهي تنتمي بهذا المعنى على مستوى الكليات إلى العقل النظري، وعلى مستوى القواعد السلوكية إلى العقل العملي. ذلك أن معيار التمييز بين النظري والعملي هو في طبيعة الحكم؛ فالعقل النظري يهتم بصدق الأحكام (القضايا) وكذبها، بينما يهتم العقل العملي بالقيمة العملية للأحكام. فالسؤال حول أهمية العدل ليس سؤالاً حول صدق الحكم، بل قيمته، وقيمة العدل مسألة عملية تتعلق بالمنافع أو المصالح المترتبة عليه على المستويين الاجتماعي والفردي.

كون القيم أمراً فطرياً وطبيعة بشرية؛ أمر يصعب إنكاره على مستوى الكليات العامة، لأن قبول الناس لصدقية الشرائع المنزلة لا ينفك عن توافق قيم الرسالة والقيم الطبيعية للإنسان. فصدق الرسول وكرمه هو ما جعل الناس تقبل على رسالته، كما تؤكد الآيات القرآنية نفسها: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}. بيد أن الوجود الفطري للقيم الكلية لا يكفي لتحويلها إلى ممارسات أخلاقية، بل ثمة حاجة إلى ربط هذه القيم الكلية بالسياق الاجتماعي، لتطوير نسق أخلاقي مناسب لممارسة هذه القيم في سياق محدد، فالعدل على سبيل المثال يأخذ شكلاً في دائرة التجارة، ويأخذ شكلاً مختلفاً في دائرة العلاقات الطبية. العدل يقتضي من التاجر الالتزام بمبدأ التنافس المشروع في السوق. ويقتضي من الطبيب عدم القيام بعملية جراحية غير ضرورية. والعدل في العلاقة الزوجية يتطلب احترام رأي ومشاعر ومصالح الطرف الآخر. هذا يعني أن التوجيه الأخلاقي يتطلب التفكير والاجتهاد لبحث أفضل قواعد السلوكية والآداب في كل دائرة من دوائر الحياة العملية.

سابعاً: الأساس التعاقدي القانوني للوحدة السياسية

جهود الإصلاح الفكري والتغيير الثقافي نشاط يرتبط بقاعدة سكانية ووحدة سياسية من ناحية غاية الجهد، ومن ناحية الحصول على دعم اجتماعي للجهد المعرفي. دأبت الحركات الثقافية والفكرية منذ التحرر من الاستعمار الأوربي إلى ربط جهودها بوحدة اجتماعية تسمى (الأمة). فهي عند القوميين العرب (الأمة العربية)، وهي عند الإسلاميين (الأمة الإسلامية).

ثمة لبس واضح في تبني هذه المشاريع يحتاج إلى بيان، وفهم دقيق لمعنى الوحدة وحقيقتها التاريخية والمعاصرة، كما يحتاج إلى فهم الفروقات الأساسية بين التاريخي والمعاصر. لم تستمر الوحدة السياسية بمعناها المركزي طويلاً، سواء تحت الدولة الأموية أو العباسية. وكان ذلك مفهوماً، لأن حجم الدولة وامتدادها تطلب تنظيماً إدارياً عجزت الدولة المركزية عن الحفاظ عليه طويلاً، كما احتاج إلى ترابط بين الهم المحلي والإدارة السياسية. الصيغة التي نجحت الدولة العباسية في تطويرها، وسمحت لها باستمرار لسبعة قرون هي وحدة قائمة على سلطة مركزية رمزية، هي سلطة الخليفة، وسلطات إقليمية ومحلية مثلتها الدول التي تعاقبت على امتداد المناطق الجغرافية من غرب الصين إلى شمال الأندلس.

البنية الثقافية والسياسية للمجتمع الحديث، وتنامي قيم المشاركة السياسية في الحياة العامة، والدفع باتجاه إخضاع الدولة الحديثة للمساءلة الشعبية، تتطلب بناء المجتمعات المحلية، والنظر إلى التضامن القومي والإسلامي بوصفه تضامناً يرتبط بالعلاقات الاقتصادية وانفتاح المجتمع المدني ومؤسساته في الدوائر الثقافية القومية والدينية حسب الظروف السياسية، وتزايد الوعي لدى الشعوب الإسلامية. هذا التوجه مهم، أولاً، لتنمية البنية السياسية القائمة على المشاركة الواسعة للمجتمع ومؤسساته الأهلية في إدارة وإثراء الحياة العامة، وهو أمر غير ممكن تحت سلطة مركزية واسعة. وهو مهم، ثانياً، لأن الظرف الدولي المحلي والإقليمي والعاملي لا يستطيع إفشال تغيير وتطوير مؤسسي ثقافي، ولكنه قادر على حشد قواه الهائلة والاستقطابات الداخلية حال السعي للتغيير من خلال حركة سياسية أممية تتناقض مع أهداف المنظومة الأممية المهيمنة.

النهوض حركة مجتمعية تقوم على رؤية جامعة توحد جهود أبناء المجتمع، والرؤية الرسالية التي تستصحب قيم الرسالة السماء، وتؤسس لمجتمع يحترم الكرامة الإنسانية، ويحفظ حقوق الإنسان، ضروية لتوجيه الجهود وتحقيق التلاحم بين أبناء المجتمعات التعددية. سعينا في هذه البحث إلى رسم المعالم الرئيسية لهذه الرؤية الرسالية التوحيدية، وإلى تأكيد أهمية اتحاد القيم و الرؤية لقيام نهضة حقيقة وتوحيد الجهود في تيار مجتمعي عريض.



  • Share

Reviews