البحث الشامل غير مفعل
تخطى إلى المحتوى الرئيسي

المشاركات المكتوبة بواسطة المدير التقني

خمسون كتاباً في «الفكر النهضوي الإسلامي»: تراكم معرفي واستدامة مؤسسية

أصدرت مكتبة الإسكندرية في مستهل العام 2016 ، مجموعة خامسة من سلسلة «في الفكر النهضوي الإسلامي» في سياق مشروعها بـ «تقديم مختارات من التراث الحديث للفكر الإسلامي». وتضم هذه المجموعة: «النسائيات» لملك حفني ناصف، و «الدين والوحي والإسلام» للشيخ مصطفى عبد الرازق، و «الفلسفة الإسلامية.. منهج وتطبيق» للدكتور إبراهيم بيومي مدكور (الأول والثاني)، و «الحركة الإسلامية.. هموم وقضايا» للسيد محمد حسين فضل الله، وترجمة «مختارات محمد خانجيتش» عن البوسنة، إضافة إلى أعمال المؤتمر الدولي «اتجاهات التجديد والإصلاح في الفكر الإسلامي الحديث» (مجلدان)، والذي افتتحه الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب بمحاضرة عن «ضرورة التجديد».

وبصدور المجموعة بلغت سلسلة كتب «في الفكر النهضوي الإسلامي» خمسين كتاباً، جرى اختيارها وإعداد دراسة تعريفية معمقة لكل كتاب منها بمعرفة واحد من الباحثين المهتمين، مع الأخذ في الاعتبار جيل الشباب والوسط. وقامت اللجنة العلمية للمشروع (محمد عمارة، ومحمد كمال الدين إمام، وإبراهيم البيومي غانم وصلاح الدين الجوهري) بمناقشة هؤلاء الباحثين ومراجعة دراساتهم، كما اشتركت معهم في حوارات علمية رصينة تضم صاحب الدراسة ونظراءه من فريق الباحثين، وذلك قبل إقرار الدراسات، كما خضعت متون الكتب لعمليات المطابقة والمراجعة والتكشيف من فريق من المراجعين واللغويين. وأقل ما يوصف به هذا المشروع هو أنه: نموذج عملي يكشف عن معنى «تجديد الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر الذي يتجلى في الخطاب الديني. وما سواه من أعمال وخطب ومؤتمرات ومقالات هو في أغلبه لا يقدم حتى الآن نموذجاً تطبيقيّاً لما يُنادى به من تجديد ويُحث عليه.

في عام 1428هـ/ 2007م، تبنت المكتبة هذا المشروع (حول التراث الحديث للفكر الإسلامي)، وبدأ العمل في اختيار الكتب ومراجعتها وإعداد دراسات تعريفية لكل منها، وبمجمل الاجتهادات الفكرية التي قدمها مؤلف كل كتاب. وتقَّبلت النخبُ الفكرية والثقافية والعُلمائية هذه الكتب بقبول حسن، وأثنت عليها ثناءً جميلاً، حتى وصفه شيخ الأزهر بأنه «من أهم المشاريع العلمية»، ودعا إلى «ترجمة هذه الأعمال إلى اللغات الحية وتعميم نشرها».

ولكن ما قد لا يعرفه كثيرون من المهتمين بهذا المشروع بخاصة، وبشؤون الفكر والثقافة بعامة، هو أن قصة هذا المشروع بدأت في سنة 1426هـ/ 2005م، أي قبل أن تشرع المكتبة في تنفيذه بحولين كاملين. وهذه القصة تستحق الرواية بتفاصيلها لثلاثة أسباب:

السبب الأول هو: أن هذا المشروع يقدم دليلاً عملياً يتعين الاقتداء به لإدراك النجاح من طريق العمل بروح الفريق، والجدية والصبر والنفس الطويل في العمل.

السبب الثاني هو: أن التقاء شيوخ العلماء وكبار الأساتذة مع الباحثين الشباب والخبراء الذين ساهموا في إنجاز هذا المشروع، يعتبر مثالاً يُحتذى كذلك، في كيفية تحقيق التواصل الخلاق بين الأجيال على قاعدة «الالتزام بالأصل والارتباط بالعصر».

السبب الثالث فهو: النمو المعرفي وتراكمه الذي اكتسبه فريق العمل بجميع مستوياته الاستشارية، والإشرافية، والإدارية خلال السنوات الخمس التي مضت من عمر هذا المشروع، على نحو يستوجب إكمال المسار المؤسسي لهذا المشروع بإنشاء مركز لدراسات الحضارة والفكر الإسلامي المعاصر بالمكتبة.

ففي عام 1426هـ/ 2005م، كما أسلفنا، نظمت مكتبة الإسكندرية في الفترة من (3-4 ذي القعدة 1426هـ/ 4-5 ديسمبر 2005م) مؤتمراً دوليّاً لمناسبة مرور مئة عام على رحيل أبرز أعلام الفكر النهضوي الإسلامي في العصر الحديث الأستاذ الإمام محمد عبده (ت 1323هـ/ 1905م). وأصدرت المكتبة أعمال هذا المؤتمر في سفر كبير، قمتُ بتحريره مع د. صلاح الدين الجوهري في زهاء ألف صفحة، بعد جهود كبيرة لتنظيم ودعوة المشاركين من أكثر من خمس عشرة دولة عربية وإسلامية. وكنتُ اقترحتُ فكرة هذا العمل في مقالة نَشَرتْها جريدة «المصري اليوم» بتاريخ 2/2/2005م بعنوان «الاحتفالية الغائبة عن معرض القاهرة للكتاب»، وقصدت بها «احتفالية الإمام محمد عبده لمناسبة مرور مئة عام على رحيله»، ومن ثم كان تبني المكتبة لإقامة المؤتمر المشار إليه، وصدور فعالياته في الكتاب المذكور.

وطوال أيام مؤتمر الإمام محمد عبده، اكتظت قاعات المكتبة بالمشاركين وجمهور الحضور من كبار العلماء والأساتذة والشباب وطلاب الجامعات، وكان هذا حافزاً لأن تتبنى المكتبة التوجه إلى إقامة مشروع للتعريف بأعلام التجديد والفكر النهضوي الإسلامي في القرنين «الثالث عشر والرابع عشر الهجريين (19 و20م)، وفي هذا السياق عرضت ثلاثةَ أسباب تدعم هذا التوجه:

أولها أن ثمة انطباعاً سائداً خاطئاً بأن القرنين الأخيرين من الزمن الإسلامي ليس فيهما مساهمات فكرية ذات قيمة تضاف إلى تراث الإنسانية. ونحن نريد تصحيح هذا الانطباع الخطأ.

ثانيها أن استمرار هذا الخطأ يخلق حالاً من اليأس ويدفع الأجيال الجديدة إلى الذوبان في تيارات الفكر الوافد ونسيان أصولهم وهويتهم، وهو أمر يجب تداركه.

ثالثها أن استمرار غياب مساهمات رواد الإصلاح والنهضة في القرنين الأخيرين يترك فراغاً فكرياً هائلاً تتمدد فيه كتابات فارغة ومضللة تروج في أسواق الكتب، ولا يجد الشباب سواها لإشباع رغبته في العلم والمعرفة.

وبمشاركة فعالة من العلامة الدكتور محمد عمارة، والدكتور صلاح الدين الجوهري، مستشار مدير المكتبة لهذا المشروع، وصديقنا الدكتور محمد كمال الدين إمام، سرعان ما أسفرت الحوارات عن اقتراح: أن تقوم المكتبة بإعادة إصدار أهم كتابات رواد الفكري النهضوي الإسلامي في القرنين الأخيرين. وبعد سلسلة من الأعمال التحضيرية، كانت البداية الفعلية لإصدار كتب المشروع تحت عنوان «في الفكر النهضوي الإسلامي» في سنة 1430هـ/ 2009م. وتشكلت لهذا الغرض لجنة استشارية ضمت اثنين وثلاثين عضواً من كبار العلماء والأساتذة في العالم العربي والإسلامي، كي يتولوا التخطيط لهذا المشروع والإشراف عليه، إلى جانب فريق متميز يضم عشرات الخبراء والباحثين من بلدان عربية وإسلامية مختلفة. وقد عهدت إليهم اللجنة العلمية للمشروع بكتابة دراسات تعريفية تقدم لكل كتاب يقع اختياره من كتب رواد الفكر النهضوي الإسلامي في ذينك القرنين.

بعد اجتماعات عديدة ومناقشات مطولة، استقرت اللجنة العلمية للمشروع على اختيار مئة كتاب من كتب رواد الفكر النهضوي الإسلامي، وراعت أن تكون هذه الكتب من إنتاج العقل التجديدي خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وحدهما، وأن ينتمي مؤلفو تلك الكتب إلى معظم مناطق العالم الإسلامي من طنجة إلى جاكرتا، ومن إسطنبول وسراييفو إلى صنعاء ومسقط، وغيرها من حواضر العالم الإسلامي شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً. وشملت المختارات مؤلفات لعلماء ومجددين في مجالات فكرية وعلمية متنوعة، ومن مذاهب: السنة، والإمامية، والإباضية، والزيدية وغيرها. كما تنوعت المحاور الفكرية التي تناولتها تلك المختارات لتشمل: التمدن الإسلامي، والتجديد والإصلاح، وقضايا النهضة، والتشريع ونظام الحكم، والحرية والتحرر، وقضايا المرأة. وقد استدعى حرصنا على هذا التنوع ترجمة بعض المؤلفات والنصوص النهضوية من لغاتها الأصلية، كالإنكليزية والفرنسية والأردية والفارسية والبوسنية إلى اللغة العربية.

وتضمنت «الوثيقة المنهجية» التي قمتُ بوضعها، وأقرتها اللجنة العلمية، العناصر الأساسية لكيفية كتابة الدراسات التعريفية بكل كتاب وبمؤلفه وبمشروعه الفكري التجديدي، واشتملت على معايير أكاديمية، من أهمها: التعريف بالسياق التاريخي والاجتماعي الذي صدر فيه الكتاب، وفكرته التجديدية الأساسية التي دافع عنها مؤلفه، وسيرة موجزة له، وعرض مكثف للمعالم الأساسية لمشروعه الفكري التجديدي، ثم الإجابة على سؤال رئيسي هو: لماذا يستحق هذا الكتاب القراءة إلى اليوم؟ وما المساهمة التي قدمها لمشروع النهضة وما زلنا بحاجة إليه؟

وبينما كان المستهدف 100 كتاب، فإننا لم نكن ساعتها ندرك جسامة عمل يتصدى لإصدارات فكرية على هذا القدر، تتطلب نوعية معينة من الباحثين لإعداد دراسات تقديمية لها، بالإضافة إلى الصعوبات التي واجهتنا للحصول على النسخ الأصلية التي تحتوي على آخر ما سطره مؤلف الكتاب، وما تلا ذلك من مراحل مطابقة ومراجعة وتكشيف لتلك النصوص. وكان هذا من الأسباب التي أدت إلى المضي في المشروع على مرحلتين.

وصدر كتيب تعريفي عن أعمال المشروع في مرحلته الأولى يعرج باختصار على المنهج العلمي والعملي والرؤية الأساسية التي توافرت لدى القائمين على تأسيسه منذ انطلاقه، والتي تستهدف إبراز الحاجة إلى تجديد الفكر الإسلامي للدفع به نحو اجتهاد إسلامي معاصر. وما ورد في تصدير هذا الكتيب (على سبيل التقديم) يستعرض باختصار المنهج العملي والعلمي الذي تم اتباعه لتحقيق هذه الرؤية في الإصدارات – المؤتمرات – الندوات.. وتشكيل شبكة من الباحثين والدارسين المعتبرين من أكثر من خمس عشرة دولة والتنسيق بينهم، والتواصل مع المؤسسات الموكلة رسميّاً بالعناية بالثقافة والفكر الإسلامي (الأزهر الشريف – دار الإفتاء بمصر).

وفي هذا السياق، فإن المشروع والسلسلة الصادرة عنه لم يكونا مجرد إعادة نشر لكتابات حرَّكَت المياه الآسنة في الفكر العربي الحديث خلال القرنين الماضيين، وإنما محاولة جادة لإعادة التفكير في أسئلة لا تزال مطروحة، وفي قضايا لا تزال تحمل أهمية كبرى، وذلك ضمن ما واجهته الأمة العربية والإسلامية من تحديات لدى احتكاكها بالعالم الغربي منذ بدايات القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي. ولقد حاول علماء الأمة ومفكروها الاجتهاد في الإجابة عن هذه الأسئلة والتحديات في زمانهم، وعلى رغم ذلك، ما زال كثير من هذه الأسئلة وتلك القضايا مطروحاً علينا، ما يلقي على علماء الأمة ومفكريها الآن مسؤولية الاجتهاد في هذه القضايا من منطلق متغيرات العصر. وفي ختام هذا الكتيب، قدمت اللجنة العلمية تصورها للمرحلة التالية، والتي تعتمد التراكم المعرفي والمؤسسية والاستدامة أساساً لها، وذلك على نحو تأسيس مركز لدراسات الفكر الإسلامي المعاصر..

وتتضمن «رؤية» مشروع المركز المساهمة في بناء خطاب إسلامي منهجي معاصر متصل بالواقع وقضاياه، وتقديم العالم من حولنا بتشابكاته وتعقيداته إلى الفكر الإسلامي، ومن ثم إلى الفقه بطريقة مناسبة وعميقة، تسمح له بالتفاعل المنهجي الجاد مع قضايا الفكر العالمي، وتقديم مساهمة في ما يجري في العالم من تطوراته وإمكاناته.


تحميل PDF

مواضيع



  • مشاركة

مراجعات

التعليقات