البحث الشامل غير مفعل
تخطى إلى المحتوى الرئيسي

المشاركات المكتوبة بواسطة المدير التقني

ثقافة المقاصد مدخل للازدهار الحضاري

ثقافة المقاصد مدخل للازدهار الحضاري

المقاصد العامة للشريعة علم وثقافة وفقه قائم بذاته، وكثير من العلماء يعتبرون فقه المقاصد هو الفقه في الدين الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.. أدرك المسلمون وعلماؤهم ذلك منذ الصدر الأول للإسلام، وعرفوا أن للشريعة مقاصد عامة في كل ما جاءت به من أحكام في مجالات العبادات والمعاملات والعادات والجنايات، ووجدوا أنه يستحيل أن يكون للشريعة أحكام وتوجيهات تفصيلية في كل هذه المجالات دون أن تكون لها مقاصد عامة وغايات عليا لتنظيم شئون الدنيا والدين.

أولا:فقه المقاصد والوعي

وقد تطور فقه المقاصد مع التطور العام للفقه الإسلامي عبر التاريخ، وأضحى مصدرا من مصادر تكوين الوعي العام للمجتمع، ورافدا من روافد ثقافته في المراحل التي ازدهرت فيها الحضارة الإسلامية في مختلف المجالات.. وتوضح وقائع التاريخ الإسلامي أن مراحل الازدهار الحضاري هي نفسها المراحل التي نما فيها فقه المقاصد وازدهرت ثقافته على نطاق واسع في صفوف الأمة، وأن مراحل التدهور والتراجع الحضاري شهدت تراجعا لفقه المقاصد وضمورا للثقافة العامة المبنية على هذا الفقه، وتجلى هذا بشكل واضح في وجود فجوة بين الإيمان النظري والشعائري من جهة، والممارسة الاجتماعية والتصرفات السلوكية من جهة أخرى.

ما نود التأكيد عليه بداية هو أن ثمة علاقة قوية بين ازدهار فقه المقاصد وبين الازدهار الحضاري بشكل عام في الأمة وأن ضمور المعرفة النظرية بهذا الفقه مؤشر على تراجعه في الممارسة العملية، والعكس صحيح، ومن ثم فإن الواقع الراهن بحاجة ماسة إلى إحياء ثقافة المقاصد والتنبيه إلى مصادرها، وإعادة وصلها بالواقع الذي نعيشه، وإذاعتها على أوسع نطاق ممكن لتكون مصدرا من مصادر تكوين الوعي الحضاري بشكل إيجابي في مجتمعاتنا، ولكن ما تعريف المقاصد العامة للشريعة؟ وكيف عرفها العلماء المسلمون؟

في الكتابات المبكرة في فقه المقاصد لا نكاد نجد تعريفا اصطلاحيا محددا لما هي المقاصد العامة للشريعة؟ وإنما نجد فقه هذه المقاصد مبثوثا في مختلف جوانب أبواب الفقه، ونجده أيضا منتشرا بصورة متباينة وبنسب مختلفة في مختلف صنوف المعرفة التي أنتجها العقل الإسلامي، سواء في علم التفسير وعلوم السنة وعلم الكلام أو الفلسفة وعلوم الأدب واللغة والتاريخ، وهذه ملاحظة مهمة جدا من حيث وظيفية علم المقاصد والدلالة على دوره في صوغ الرؤية الحضارية العامة للمجتمع، وليس فقط في التعرف على علل الأحكام أو الحكمة منها بمعزل عن التطبيقات العملية لها.

في تلك المراحل الأولى، وخاصة قبل عصر التدوين في القرن الثاني الهجري، لم يكن الأمر يحتاج إلى تعريف اصطلاحي بقدر ما كانت الحاجة إلى بث المعرفة بهذا الفقه وتنشئة المجتمع على ثقافة المقاصد مع ربطها بأحكامها الجزئية وتكاليفها التفصيلية في مختلف المجالات.

ثانيا:معاني وأسرار

ثم استوت نظرية المقاصد على يد سلسلة من العلماء المجتهدين، وتواضعوا على تعريفها بأنها هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، وتدخل في ذلك أوصاف الشريعة وغاياتها العامة، كما قال الشيخ الطاهر بن عاشور مثلا، أو هي الغاية من الشريعة والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها.

ويعتبر أبو إسحاق الشاطبي (ت:790 هـ) أول من قدم صياغة متكاملة لفقه المقاصد في كتابه الموافقات في أصول الشريعة، وإن كان قد سبقه آخرون من أمثال الإمام الغزالي والإمام الجويني باستنباط المقاصد ومحاولة تعليلها وتصنيفها، وصار من المعتاد تقسيم المقاصد الشرعية إلى ضروريات، وحاجيات، وتحسينيات.. وقد بسط الشيخ عبد الوهاب خلاف شرح كل صنف منها، وذهب إلى أن الضروري هو ما تقوم عليه حياة الناس، ولا بد منه لاستقامة مصالحهم، وأن الأمور الضرورية للناس بهذا المعنى ترجع إلى حفظ خمسة أشياء، هي الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وأما الحاجيات فهي ما يحتاج إليه الناس لليسر والسعة، وأما التحسينيات فهي ما تقتضيه المروءة والآداب العامة، وهي في جملتها ترجع إلى مكارم الأخلاق ومحاسن العادات.

وثمة اجتهادات معاصرة تقسم المقاصد تضمنها كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية الذي حرره الدكتور محمد سليم العوا وقدم له الشيخ أحمد زكي يماني، ومن ذلك تقسيم المقاصد إلى ثلاثة أقسام هي:

أ- المقاصد العامة، وهي تدور حول جلب المصالح ودرء المفاسد.

ب- المقاصد الخاصة، وهي تتعلق بما تهدف إليه الشريعة في باب معين أو مجال ما، مثل مقاصد الشرع في التصرفات المالية أو في القضاء بين الناس أو في أحكام العائلة.. إلخ.

ج- مقاصد جزئية، وهي تتناول ما أراده الشارع الحكيم من كل حكم على حدة، أو كما يقول الشيخ علال الفاسي: هي الأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها.

ويوجد جدل واسع النطاق بين العلماء في طريقة النظر إلى مقاصد الشريعة، كما أن هناك عدة مدارس فقهية بهذا الخصوص قسمها الشيخ القرضاوي إلى ثلاث، الأولى هي مدرسة الظاهرية الجدد، الذين يفقهون النصوص الشرعية بعيدا عن مقاصدها، والثانية هي مدرسة المعطلة الجدد، وهي على عكس السابقة، فأنصارها يعطلون النصوص بحجة مراعاة المصالح أو المقاصد العامة، وأخيرا المدرسة الوسطية، وهي التي يربط أنصارها بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية للشريعة.

وأيا ما كانت الاختلافات بين العلماء في تصنيف المقاصد العامة فإنهم متوافقون على أن المقصد العام للشارع من تشريع الأحكام - كما يقول الشيخ عبد الوهاب خلاف - هو تحقيق مصالح الناس في هذه الحياة بجلب النفع لهم ودفع الضرر عنهم، والشارع الحكيم شرع أحكاما في مختلف أبواب أعمال الإنسان لتحقيق أمهات الضروريات والحاجيات والتحسينيات للأفراد والجماعات الذين يعيشون في ظل الاجتماع السياسي الإسلامي دون تمييز بينهم بسبب الجنس أو الدين أو المذهب أو اللون أو غير ذلك، فمجرد ثبوت وصف الآدمية يرتب تلك الحقوق والمصالح التي جاءت بها الشريعة وقصدت إلى تحقيقها.

ثالثا:دلالة الترتيب

بعض العلماء يرون أن ترتيب المقاصد الخمسة الكبرى للشريعة هو ترتيب ذو مغزى، بمعنى أن تقديم حفظ الدين يعني أنه له الأولوية على ما عداه، ويليه حفظ العقل الذي يتقدم على غيره وهكذا، وبعضهم الآخر يرون أن الترتيب غير ذي دلالة من حيث الأولوية أو الأهمية التي تشير إليها المقاصد، ولكنا نميل إلى أنصار الرأي الأول، إذ إن حفظ الدين - من منظور الشريعة الإسلامية - هو أساس حفظ جميع المصالح والمقاصد الأخرى، وفي ذلك دين أو أديان المخالفين للإسلام، فالإسلام ذاته هو الذي يأمر بحفظ عقائدهم، ويقرر بوضوح مبدأ لا إكراه في الدين، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وكذلك بالنسبة لحفظ العقل الذي يكون بتنشئته وتثقيفه وتغذيته بالأفكار والقيم والمبادئ، وحثه على التأمل والنقد والابتكار.. إلخ، وبدون ذلك يصعب جدا حفظ المقاصد الأخرى، في النفس والمال والعرض وغيرها من المقاصد التي لا يزال العلماء يجتهدون في استنباطها وإضافتها إلى منظومة المقاصد العامة للشريعة، ومن أهم ما أضيف إليها مقصد الحرية، ومقصد العمل الخيري، وفي ذلك تفصيل قد نعود إليه فيما بعد.. يهمنا الآن تأكيد أن الموضوع الرئيسي لهذا العلم المقاصد العامة للشريعة هو البحث عن غايات الإسلام من التشريع الذي جاء به في قوانين المعاملات، والآداب التي يرى أنها جديرة بأن تخص باسم الشريعة، والتي هي مظهر ما راعاه الإسلام من تعاريف المصالح والمفاسد والموازنة بينها وترجيح أحدها على الآخر، مما هو مظهر عظمة الشريعة الإسلامية بين بقية الشرائع والقوانين والسياسات الاجتماعية.. وقد حدد المقاصديون عدة طرق للتعرف على المقاصد العامة للشريعة، منها أدلة القرآن الواضحة الدلالة والسنة النبوية المتواترة واستقراء الأحكام المعروفة عللها.

وحب الحصيد هو أننا كلما تأملنا المقاصد العامة للشريعة سواء منها ما استنبطه الأولون أو ما استنبطه المحدثون وجدنا أنها تشكل منظومة متماسكة وتقيم بنيانا يشد بعضه بعضا بحيث يصعب جدا أن نتصور مقصدا بمعزل عن بقية المقاصد، فكل منها يأخذ بيد الآخر، وكلها ماض على طريق مصلحة الآدمي، مسلما كان أو غير مسلم، ذلك لأنها كلها موثوقة برباط الفطرة الإنسانية ومبنية عليها باعتبار أن الفطرة هي وصف الشريعة الأعظم، وقد أصاب وأجاد العلامة ابن عاشور في شرحه هذه الصفة المركزية من صفات الشريعة الإسلامية، واستخلص أن السماحة هي أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها 


  • مشاركة

مراجعات

التعليقات